Choose your Language
English= الانجليزية
French= الفرنسية
الرئيسية
قائمة الاعضاء
البيانات الشخصية
س .و .ج
بحـث
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 16 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 16 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 457 بتاريخ السبت أكتوبر 19, 2024 12:44 am
لمن يريد الدعاية و الاعلان في هذا المنتدي
الجمعة أكتوبر 22, 2010 3:02 pm من طرف Admin
لمن يريد الدعاية و الاعلان في هذا المنتدي عليه الاتصال بالدكتور علاء عكاشة
ت 01227968156
شركات الادوية - المشاريع الخاصة البيطرية - العيادات البيطرية - معامل …
[ قراءة كاملة ]
ت 01227968156
شركات الادوية - المشاريع الخاصة البيطرية - العيادات البيطرية - معامل …
[ قراءة كاملة ]
تعاليق: 2
المواضيع الأخيرة
مواضيعي
زائر
لوحة التحكم
55بحـث
https://www.facebook.com/vetext1/
D.Alla Okasha
اضغط علي اسم الرابط للدخول اليه
دخول
إعلانات تجارية
لا يوجد حالياً أي إعلان
صور من التسامح في الإسلام مع غير المسلمين
صفحة 1 من اصل 1
صور من التسامح في الإسلام مع غير المسلمين
صور من التسامح في الإسلام مع غير المسلمين
المجتمع الإسلامي مجتمع يقوم على عقيدة خاصة، منها تنبثق نظمه وأحكامه، وآدابه وأخلاقه، هذه العقيدة هي الإسلام، وهذا هو معنى تسميته "المجتمع الإسلامي"؛ فهو مجتمع اتَّخذ الإسلام منهاجًا لحياته، ودستورًا لحكمه، ومصدرًا لتشريعه وتوجيهه في كل شؤون الحياة، وعلاقاتها فردية واجتماعية، مادية ومعنوية، محلية ودولية.
ولكن ليس معنى هذا أن المجتمع المسلم يحكم بالفَناء على جميع العناصر التي تعيش في داخله، وهي تدين بدين آخر غير الإسلام!
كلا، إنه يقيم العلاقة بين أبنائه المسلمين وبين مواطنيهم من غير المسلمين على أسس وطيدة من التسامح والعدالة، والبر والرحمة، وهي أسس لم تعرفها البشرية قبل الإسلام، وقد عاشت قرونًا بعد الإسلام وهي تقاسي الويل من فقدانها، ولا تزال إلى اليوم تتطلع إلى تحقيقها في المجتمعات الحديثة، فلا تكاد تصل إليها في مجتمع ما، وفي وقت ما، إلا غلب عليها الهوى والعصبية، وضيق الأفق والأنانية، وجرَّتها إلى صراع دامٍ مع المخالفين في الدين، أو المذهب، أو الجنس، أو اللون.
دستور العلاقة مع غير السلمين:
وأساس هده العلاقة مع غير المسلمين قوله - تعالى -: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الممتحنة: 8، 9]؛ فالبر والقسط مطلوبان من المسلم للناس جميعًا، ولو كانوا كفارًا بدينه، ما لم يقفوا في وجهه ويحاربوا دعاته، ويضطهدوا أهله.
ولأهل الكتاب من بين غير المسلمين منزلة خاصة في المعاملة والتشريع، والمراد بأهل الكتاب مَن قام دينهم في الأصل على كتاب سماوي، وإن حرِّف وبدِّل بعدُ، كاليهود والنصارى الذين قام دينهم على التوراة والإنجيل؛ فالقرآن ينهى عن مجادلتهم في دينهم إلا بالحسنى، حتى لا يوغر المراءُ الصدور، ويوقد الجدل واللدد نار العصبية والبغضاء في القلوب، قال - تعالى -: ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 46]، ويبيح الإسلام مؤاكلة أهل الكتاب، والأكل من ذبائحهم، كما أباح مصاهرتهم والتزوج من نسائهم المحصنات العفيفات، مع ما قرَّره القرآن من قيام الحياة الزوجية على المودة والرحمة، وهذا في الواقع تسامح كبير من الإسلام؛ حيث أباح للمسلمِ أن تكون ربة بيته وشريكة حياته وأم أولاده غير مسلمة، وأن يكون أخوال أولاده وخالاتهم من غير المسلمين؛ قال - تعالى -: ﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 5]، وهذا الحكم في أهل الكتاب، وإن كانوا في غير دار الإسلام، أما المواطنون المقيمون في دار الإسلام فلهم منزلة ومعاملة، وهؤلاء هم "أهل الذمة"، فما حقيقتهم؟[1].
أهل الذمة:
جرى العرف الإسلامي على تسمية المواطنين من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي باسم: "أهل الذمة" أو "الذميين".
و"الذمة" كلمة معناها: العهد والضمان والأمان، وإنما سموا بذلك؛ لأن لهم عهد الله وعهد رسوله، وعهد جماعة المسلمين أن يعيشوا في حماية الإسلام، وفي كنف المجتمع الإسلامي آمنين مطمئنين، فهم في أمان المسلمين وضمانهم، بناءً على "عقد الذمة"، فهذه الذمة تعطي أهلها - من غير المسلمين - ما يشبه في عصرنا "الجنسية" السياسية التي تعطيها الدولة لرعاياها، فيكتسبون بذلك حقوق المواطنين، ويلتزمون بواجباتهم؛ فالذمي على هذا الأساس من "أهل دار الإسلام" كما يعبر الفقهاء، أو من حاملي الجنسية الإسلامية كما يعبر المعاصرون.
وعقد الذمة عقد مؤبد، يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم، وتمتعهم بحماية الجماعة الإسلامية ورعايتها، بشرط بذلهم "الجِزْية"، والتزامهم أحكام القانون الإسلامي في غير الشؤون الدينية.
وبهذا يصيرون من أهل "دار الإسلام"، فهذا العقد ينشئ حقوقًا متبادلة لكل من الطرفين: المسلمين وأهل ذمتهم، بإزاء ما عليه من واجبات.
فما هي الحقوق التي كفلها الشرع لأهل الذمة، وما هي واجباتهم؟[2]:
حقوق أهل الذمة:
القاعدة الأولى في معاملة أهل الذمة في "دار الإسلام": أن لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين، إلا في أمور محدَّدة مستثناة، كما أن عليهم ما على المسلمين من الواجبات إلا ما استُثنِي.
حق الحماية:
فأول هذه الحقوق هو حق تمتعهم بحماية الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، وهذه الحماية تشمل حمايتهم من كل عدوان خارجي، ومن كل ظلم داخلي، حتى ينعموا بالأمان والاستقرار.
(أ) الحماية من الاعتداء الخارجي:
أما الحماية من الاعتداء الخارجي، فيجب لهم ما يجب للمسلمين، وعلى الإمام - أو ولي الأمر في المسلمين بما له من سلطة شرعية، وما لديه من قوة عسكرية - أن يوفر لهم هذه الحماية.
قال في "مطالب أولي النهى" من كتب الحنابلة:
"يجب على الإمام حفظ أهل الذمة، ومنع ما يؤذيهم، وفك أسرهم، ودفع مَن قصدهم بأذى إن لم يكونوا بدار حرب، بل كانوا بدارنا، ولو كانوا منفردين ببلد، وعلل ذلك بأنهم "جرت عليهم أحكام الإسلام، وتأبد عقدهم؛ فلزمه ذلك كما يلزمه للمسلمين"[3].
وينقل الإمام القرافي المالكي في كتابه "الفروق" قول الإمام الظاهري "ابن حزم" في كتابه "مراتب الإجماع" أن مَن كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، صونًا لمن هو في ذمة الله - تعالى - وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة، وحكى في ذلك إجماع الأمة، وعلق على ذلك القرافي بقوله: "فعقد يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال صونًا لمقتضاه عن الضياع إنه لعظيم"[4].
ومن المواقف التطبيقية لهذا المبدأ الإسلامي، موقف شيخ الإسلام "ابن تيمية" حينما تغلب التتار على الشام، وذهب الشيخ ليكلِّم "قطلوشاه" في إطلاق الأسرى، فسمح القائد التتري للشيخ بإطلاق أسرى المسلمين، وأبَى أن يسمح له بإطلاق أهل الذمة، فما كان من شيخ الإسلام إلا أن قال: لا نرضى إلا بافتكاك جميع الأسارى من اليهود والنصارى، فهم أهل ذمتنا، ولا ندع أسيرًا، لا من أهل الذمة ولا من الملة، فلما رأى إصراره وتشدده أطلقهم له[5].
(ب) الحماية من الظلم الداخلي:
وأما الحماية من الظلم الداخلي، فهو أمر يوجبه الإسلام ويشدد في وجوبه، ويحذر المسلمين أن يمدوا أيديَهم أو ألسنتهم إلى أهل الذمة بأذى أو عدوان، فالله - تعالى - لا يحب الظالمين ولا يهديهم، بل يعاجلهم بعذابه في الدنيا، أو يؤخر لهم العقاب مضاعفًا في الآخرة،وجاءت أحاديث خاصة تحذر من ظلم غير المسلمين من أهل العهد والذمة، ومنها:
قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن ظلم معاهَدًا، أو انتقصه حقًّا، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أحذ منه شيئًا بغير طِيب نفسٍ منه؛ فأنا حجيجه يوم القيامة))[6].
وفي عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل نجران أنه: ((لا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر))[7].
ولهذا كله اشتدت عناية المسلمين منذ عهد الخلفاء الراشدين بدفع الظلم عن أهل الذمة، وكف الأذى عنهم، والتحقيق في كل شكوى تأتي من قِبلهم.
كان عمر - رضي الله عنه - يسأل الوافدين عليه من الأقاليم عن حال أهل الذمة، خشية أن يكون أحد من المسلمين قد أفضى إليهم بأذى، فيقولون له: "ما نعلم إلا وفاء"[8]؛ أي: بمقتضى العهد والعقد الذي بينهم وبين المسلمين، وهذا يقتضي أن كلاًّ من الطرفين وفَّى بما عليه، كما قال عمر - رضي الله عنه - في وصيته للخليفة بعده: "وأوصيه بأهل ذمة المسلمين خيرًا، أن يوفى لهم بعهدهم، ويحاط من ورائهم".
وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول: إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا[9].
وفقهاء المسلمين من كافة المذاهب الاجتهادية صرَّحوا وأكدوا بأن على المسلمين دفع الظلم عن أهل الذمة، والمحافظة عليهم؛ لأن المسلمين حين أعطوهم الذمة قد التزموا دفع الظلم عنهم، وهم صاروا به من أهل دار الإسلام، بل صرَّح بعضهم بأن ظلم الذمي أشدُّ من ظلم المسلم إثمًا[10].
(ج) حماية الدماء والأبدان:
وحق الحماية المقرَّر لأهل الذمة يتضمن حماية دمائهم وأنفسهم وأبدانهم، كما يتضمن حماية أموالهم وأعراضهم، فدماؤهم وأنفسهم معصومة باتفاق المسلمين، وقتلهم حرام بالإجماع، يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا))[11].
ولهذا أجمع فقهاء الإسلام على أن قتل الذمي كبيرة من كبائر المحرمات؛ لهذا الوعيد في الحديث، ولكنهم اختلفوا: هل يقتل المسلمُ بالذمي إذا قتله؟ والصحيح أنه يقتل به"[12].
وكما حمى الإسلام أنفسهم من القتل، حمى أبدانهم من الضرب والتعذيب؛ فلا يجوز إلحاق الأذى بأجسامهم ولو تأخروا أو امتنعوا عن أداء الواجبات المالية المقررة عليهم؛ كالجزية والخراج، هذا مع أن الإسلام تشدد كل التشدد مع المسلمين إذا منعوا الزكاة، ولم يُجِز الفقهاء في أمر الذميين المانعين أكثر من أن يحبسوا تأديبًا لهم، بدون أن يصحب الحبس أي تعذيب أو أشغال شاقة.
وفي ذلك كتب أبو يوسف[13]: أن "هشام بن حكيم بن حزام" أحد الصحابة - رضي الله عنه - رأى رجلاً - وهو على حمص - يشمِّس ناسًا من النبط في أداء الجزية، فقال: ما هذا؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله - عز وجل - يعذِّب الذين يعذبون الناس في الدنيا))[14].
وكتب "علي" إلى بعض ولاته على الخراج: إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوة، شتاءً ولا صيفًا، ولا رزقًا يأكلونه، ولا دابة يعملون عليها، ولا تضربن أحدًا منهم سوطًا واحدًا في درهم، ولا تُقِمْه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عرضًا "متاعًا" في شيء من الخراج، فإنما أُمِرنا أن نأخذ منهم العفو، فإن أنت خالفت ما أمرتُك به، يأخذك الله به دوني، وإن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتك"، قال الوالي: إذًا أرجع إليك كما خرجت من عندك، قال: وإن رجعت كما خرجت[15]!
د) حماية الأموال:
ومثل حماية الأنفس والأبدان حماية الأموال، وهذا مما اتفق عليه المسلمون، في جميع المذاهب، وفي جميع الأقطار، ومختلف العصور.
روى أبو يوسف في "الخراج" ما جاء في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل نجران: ((ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أموالهم وملتهم وبِيَعِهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير...))[16].
وفي عهد عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح "أن امنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم وأكل أموالهم إلا بحلها".
وعلى هذا استقرَّ عمل المسلمين طوال العصور، فمَن سرق مال ذمي قطعت يده، ومن غصبه عزِّر، وأعيد المال إلى صاحبه، ومَن استدان من ذمي فعليه أن يقضي دينه، فإن مطله وهو غني حبسه الحاكم حتى يؤدي ما عليه.
وبلغ من رعاية الإسلام لحرمة أموالهم وممتلكاتهم، أنه يحترم ما يعدونه - حسب دينهم - مالاً، وإن لم يكن مالاً في نظر المسلمين، فالخمر والخنزير لا يعتبران عند المسلمين مالاً متقومًا، ومَن أتلف لمسلم خمرًا أو خنزيرًا لا غرامة عليه ولا تأديب، بل هو مثابٌ مأجور على ذلك، ولا يجوز للمسلم أن يمتلك هذين الشيئين، لا لنفسه ولا ليبيعها لغيره.
أما الخمر والخنزير إذا ملكهما غير المسلم، فهما مالانِ عنده، بل من أنفس الأموال، كما قال فقهاء الحنفية، فمَن أتلفهما على الذمي غرم قيمتهما؛ على مذهب الحنفية"[17].
(هـ) حماية الأعراض:
ويحمي الإسلام عِرض الذمي وكرامته، كما يحمي عِرض المسلم وكرامته، فلا يجوز لأحد أن يسبه، أو يتهمه بالباطل، أو يشنع عليه بالكذب، أو يغتابه ويذكره بما يكره في نفسه، أو نسبه، أو خَلقه، أو خُلُقه، أو غير ذلك مما يتعلق به!
يقول الفقيه الأصولي المالكي "شهاب الدين القرافي" في كتابه "الفروق":
"إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقًا علينا؛ لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا "حمايتنا" وذمتا، وذمة الله - تعالى - وذمة رسول الله - عليه الصلاة والسلام - ودين الإسلام، فمَن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غِيبة، فقد ضيع ذمة الله وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وذمة دين الإسلام[18].
وفي الدر المختار من كتب الحنفية: "يجب كف الأذى عن الذمي، وتحرم غِيبته كالمسلم"، ويعلق العلامة "ابن عابدين" على ذلك بقوله: "لأنه بعقد الذمة وجب له ما لنا، فإذا حرمت غِيبة المسلم حرمت غيبته، بل قالوا: إن ظلم الذمي أشد"[19].
(و) التأمين عند العجز والشيخوخة والفقر:
وأكثر من ذلك أن الإسلام ضمن لغير المسلمين في ظل دولته كفالة المعيشة الملائمة لهم ولمن يعولونه؛ لأنهم رعية للدولة المسلمة، وهي مسؤولة عن كل رعاياها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كلكم راعٍ، وكل راعٍ مسؤول عن رعيته))[20].
وهذا ما مضت به سنة الراشدين ومَن بعدهم، ففي عقد الذمة الذي كتبه خالد بن الوليد لأهل الحيرة بالعراق - وكانوا من النصارى -: "وجعلت لهم أيما شيخ ضَعُف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيًّا فافتقر، وصار أهل دِينه يتصدَّقون عليه، طرحت جِزيته، وعِيلَ من بيت مال المسلمين هو وعياله"[21].
وكان هذا في عهد أبي يكر الصديق - رضي الله عنه - وبحضرة عدد كبير من الصحابة، وقد كتب خالد به إلى الصِّديق، ولم ينكر عليه أحد، ومثل هذا يعد إجماعًا، وقد مر بنا فعل عمر مع الشيخ اليهودي، وكذلك ما أمر به من الصدقات لمجذوميالنصارى.
وبهذا تقرَّر الضمان الاجتماعي في الإسلام، باعتباره "مبدأً عامًّا" يشمل أبناء المجتمع جميعًا، مسلمين وغير مسلمين، ولا يجوز أن يبقى - في المجتمع المسلم - إنسان محرومًا من الطعام، أو الكسوة، أو المأوى، أو العلاج، فإن دفع الضرر عنه واجب ديني، مسلمًا كان أو ذميًّا.
وذكر الإمام النووي في "المنهاج" أن من فروض الكفاية دفع ضرر المسلمين؛ ككسوة عارٍ، أو إطعام جائع، إذا لم يندفع بزكاة بيت المال[22].
ووضح العلامة شمس الدين الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" أن أهل الذمة كالمسلمين في ذلك، فدفع الضرر عنهم واجب، ثم بحث الشيخ "الرملي" - رحمه الله - في تحديد معنى دفع الضرر، فقال: وهل المراد بدفع ضرر مَن ذُكِر، ما يسد الرمق أم الكفاية؟ قولان، أصحهما: ثانيهما.
فيجب في الكسوة ما يستر كل البدن على حسب ما يليق بالحال من شتاء وصيف، ويلحق بالطعام والكسوة ما في معناها؛ كأجرة طبيب، وثمن دواء، وخادم منقطع، كما هو واضح، قال: ومما يندفع به ضرر المسلمين والذميين فك أسرهم[23]؛ اهـ[24].
حرية التدين:
ويحمي الإسلام - فيما يحميه من حقوق أهل الذمة - حق الحرية، وأول هذه الحريات: حرية الاعتقاد والتعبد، فلكل ذي دين دينه ومذهبه، لا يجبر على تركه إلى غيره، ولا يضغط عليه أي ضغط ليتحول منه إلى الإسلام، وأساس هذا الحق قوله - تعالى -: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة: 256]، وقوله - سبحانه -: ﴿ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 99].
قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى: "أي: لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه[25].
وسبب نزول الآية - كما ذكر المفسرون - يبيِّن لنا جانبًا من إعجاز هذا الدين، فقد رووا عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاة - قليلة النسل - فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده، "كان يفعل ذلك نساء الأنصار في الجاهلية"، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقال آباؤهم: لا ندَعُ أبناءنا"؛ يعنون: لا ندعهم يعتنقون اليهودية، فأنزل الله - عز وجل - هذه الآية: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256][26].
فرغم أن محاولات الإكراه كانت من آباء يريدون حماية أبنائهم من التبعية لأعدائهم المحارِبين الذين يخالفونهم في دينهم وقوميَّتهم، ورغم الظروف الخاصة التي دخل بها الأبناء دين اليهودية وهم صغار، رغم ما كان يسود العالم كله حينذاك من موجبات التعصب والاضطهاد للمخالفين في المذهب، فضلاً عن الدين، كما كان في مذهب الدولة الرومانية التي خيرت رعاياها حينًا بين التنصر والقتل، فلما تبنَّت المذهب "الملكاني" أقامت المذابح لكل مَن لا يدين به من المسيحين من اليعاقبة وغيرهم[27]، ورغم كل هذا رفض القرآن الإكراه، بل مَن هداه الله وشرح صدره ونوَّر بصيرته دخل فيه على بينة، ومَن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره؛ فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرَهًا مقسورًا"[28].
فالإيمان عند المسلمين ليس مجرد كلمة تلفظ باللسان، أو طقوسًا تؤدَّى بالأبدان، بل أساسه إقرار القلب وإذعانه وتسليمه؛ ولهذا لم يعرف التاريخ شعبًا مسلمًا حاول إجبار أهل الذمة على الإسلام، كما أقرَّ بذلك المؤرِّخون الغربيون أنفسهم.
وكذلك صان الإسلام لغير المسلمين معابدَهم، ورعى حرمة شعائرهم، بل جعل القرآن من أسباب الإذن في القتال حماية حرية العبادة، وذلك في قوله - تعالى -: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 39، 40].
• وقد رأينا كيف اشتمل عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل نجران على أن لهم جوار الله وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على أموالهم وملتهم وبِيَعِهم[29].
"وفي عهد عمر بن الخطاب إلى أهل إيلياء "القدس" نصَّ على حريتهم الدينية، وحرية معابدهم وشعائرهم: "هذا ما أعطى عبدالله "عمر بن الخطاب" أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبانهم، وسائر ملتهم، لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا حيزها، ولا من صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود"؛ كما رواه الطبري[30].
وكل ما يطلبه الإسلام من غير المسلمين أن يراعوا مشاعر المسلمين، وحرمة دينهم، فلا يُظهِروا شعائرهم وصلبانهم في الأمصار الإسلامية، ولا يُحدِثوا كنيسة في مدينة إسلامية لم يكن فيها كنيسة من قبل، وذلك لما في الإظهار والإحداث من تحدي الشعور الإسلامي؛ مما قد يؤدي إلى فتنة واضطراب، على أن من فقهاء المسلمين من أجاز لأهل الذمة إنشاء الكنائس والبِيَع وغيرها من المعابد في الأمصار الإسلامية، وفي البلاد التي فتحها المسلمون عَنوة، أي إن أهلها حاربوا المسلمين ولم يسلموا لهم إلا بحد السيف، إذا أذن لهم إمام المسلمين بذلك بناءً على مصلحة رآها، ما دام الإسلام يقرهم على عقائدهم، وقد ذهب إلى ذلك الزيدية والإمام ابن القاسم من أصحاب مالك[31].
ويبدو أن العمل جرى على هذا في تاريخ المسلمين، وذلك منذ عهد مبكر؛ فأغلب الكنائس محدثة في الإسلام بلا خلاف، أما في القرى والمواضع التي ليست من أمصار المسلمين فلا يمنعون من إظهار شعائرهم الدينية، وتجديد كنائسهم القديمة، وبناء ما تدعو حاجتهم إلى بنائه، نظرًا لتكاثر عددهم.
وهذا التسامح مع المخالفين في الدين من قوم قامت حياتهم كلها على الدين، وتم لهم به النصر والغلبة؛ أمر لم يعهد في تاريخ الديانات، وهذا ما شهد به الغربيون أنفسهم[32].
• يقول العلامة الفرنسي "جوستاف لوبون": "رأينا من آي القرآن التي ذكرناها آنفًا أن مسامحة "محمد" لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية، وأنه لم يقلْ بمثلها مؤسِّسو الأديان التي ظهرتْ قبله كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص، وسنرى كيف سار خلفاؤه على سنته، وقد اعترف بذلك التسامح بعض علماء أوروبا المرتابون أو المؤمنون القليلون الذين أمعنوا النظر في تاريخ العرب.
والعبارات الآتية التي أقتطفها من كتب الكثيرين منهم تثبت أن رأينا في هذه المسألة ليس خاصًّا بنا، وقد نُقل عن "روبرتسن" في كتابه (تاريخ شارلكن) أن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وأنهم مع امتشاقهم الحسام نشرًا لدينهم؛ تركوا مَن لم يرغبوا فيه أحرارًا في التمسك بتعاليمهم الدينية[33].
حرية العمل والكسب:
لغير المسلمين حرية العمل والكسب، بالتعاقد مع غيرهم، أو بالعمل لحساب أنفسهم، ومزاولة ما يختارون من المهن الحرة، ومباشرة ما يريدون من ألوان النشاط الاقتصادي، شأنهم في ذلك شأن المسلمين، فقد قرر الفقهاء أن أهل الذمة في البيوع، والتجارات، وسائر العقود، والمعاملات المالية كالمسلمين، ولم يستثنوا من ذلك إلا عقد الربا، فإنه محرَّم عليهم كالمسلمين، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى مجوس هجر: ((إما أن تذروا الربا أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله))، كما يمنع أهل الذمة من بيع الخمور والخنازير في أمصار المسلمين، وفتح الحانات فيها لشرب الخمر، ومن تداولها أو إدخالها إلى أمصار المسلمين على وجه الشهرة والظهور، ولو كان ذلك لاستمتاعهم الخاص؛ سدًّا لذريعة الفساد وإغلاقًا لباب الفتنة.
وفيما عدا هذه الأمور المحدودة، يتمتع الذميون بتمام حريتهم، في مباشرة التجارات والصناعات والحِرَف المختلفة، وهذا ما جرى عليه الأمر، ونطق به تاريخ المسلمين في شتى الأزمان، وكادت بعض المهن تكون مقصورة عليهم؛ كالصيرفة والصيدلة وغيرها، واستمرَّ ذلك إلى وقت قريب في كثير من بلاد الإسلام، وقد جمعوا من وراء ذلك ثروات طائلة معفاة من الزكاة ومن كل ضريبة إلا الجزية، وهي ضريبة على الأشخاص القادرين على حمل السلاح، كما سيأتي، وهي مقدار جد زهيد[34].
قال الأستاذ آدم ميتز[35]: "ولم يكن في التشريع الإسلامي ما يغلق دون أهل الذمة أي باب من أبواب الأعمال، وكانت قدمهم راسخة في الصنائع التي تدرُّ الأرباح الوافرة، فكانوا صيارفة وتجارًا وأصحاب ضياع وأطباء، بل إن أهل الذمة نظموا أنفسهم، بحيث كان معظم الصيارفة والجهابذة في الشام مثلاً يهودًا، على حين كان أكثر الأطباء والكَتَبة نصارى، وكان رئيس النصارى ببغداد هو طبيب الخليفة، وكان رؤساء اليهود وجهابذتهم عنده[36].
تولي وظائف الدولة:
ولأهل الذمة الحق في تولي وظائف الدولة كالمسلمين، إلا ما غلب عليه الصبغة الدينية؛ كالإمامة، ورئاسة الدولة، والقيادة في الجيش، والقضاء بين المسلمين، والولاية على الصدقات، ونحو ذلك.
فالإمامة أو الخلافة رياسةٌ عامة في الدين والدنيا، وخلافة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يجوز أن يخلف النبيَّ في ذلك إلا مسلمٌ، ولا يعقل أن ينفذ أحكام الإسلام ويرعاها إلا مسلم، وقيادة الجيش ليست عملاً مدنيًّا صرفًا، بل هي عمل من أعمال العبادة في الإسلام؛ إذ الجهاد في قمة العبادات الإسلامية، والقضاء إنما هو حكم بالشريعة الإسلامية، ولا يطلب من غير المسلم أن يحكم بما لا يؤمن به.
ومثل ذلك الولاية على الصدقات ونحوها من الوظائف الدينية، وما عدا ذلك من وظائف الدولة يجوز إسناده إلى أهل الذمة، إذا تحققت فيهم الشروط التي لا بد منها، من الكفاية والأمانة والإخلاص للدولة، بخلاف الحاقدين الذين تدل الدلائل على بغضٍ مستحكمٍ منهم للمسلمين، كالذين قال الله فيهم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118].
وقد بلغ التسامح بالمسلمين أن صرَّح فقهاء كبار - مثل الماوردي في "الأحكام السلطانية" - بجواز تقليد الذمي "وزارة التنفيذ"، ووزير التنفيذ هو الذي يبلغ أوامر الإمام ويقوم بتنفيذها، ويمضي ما يصدر عنه من أحكام.
وهذا بخلاف "وزارة التفويض" التي يَكِل فيها الإمام إلى الوزير تدبير الأمور السياسية والإدارية والاقتصادية بما يراه، وقد تولَّى الوزارة في زمن العباسيين بعض النصارى أكثر من مرة، وكان لمعاوية بن أبي سفيان كاتب نصراني.
وقد بلغ تسامح المسلمين في هذا الأمر أحيانًا إلى حد المبالغة والجور على حقوق المسلمين[37]!
ضمانات الوفاء بهذه الحقوق:
لقد قررت الشريعة الإسلامية لغير المسلمين كل تلك الحقوق، وكفلت لهم كل تلك الحريات، وزادت على ذلك بتأكيد الوصية بحسن معاملتهم ومعاشرتهم بالتي هي أحسن.
ولكن مَن الذي يضمن الوفاء بتنفيذ هذه الحقوق وتحقيق هذه الوصايا؟ وبخاصة أن المخالفة في الدين كثيرًا ما تقف حاجزًا دون ذلك، وهذا الكلام حق وصدق بالنظر إلى الدساتير الأرضية والقوانين الوضعية التي تنص على المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، ثم تظل حبرًا على ورق، لغلبة الأهواء والعصبيات التي لم تستطع القوانين أن تنتصر عليها؛ لأن الشعب لا يشعرُ بقدسيتِها، ولا يؤمن في قرارة نفسه بوجوب الخضوع لها والانقياد لحكمها.
ضمان العقيدة:
أما الشريعة الإسلامية، فهي شريعة الله وقانون السماء، الذي لا تبديل لكلماته، ولا جور في أحكامه، ولا يتم الإيمان إلا بطاعته، والرضا به، قال - تعالى -: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36].
ولهذا يحرص كل مسلم يتمسك بدينه على تنفيذ أحكام هذه الشريعة ووصاياها، ليرضي ربه وينال ثوابه، لا يمنعه من ذلك عواطف القرابة والمودة، ولا مشاعر العداوة والشنآن.
قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ [النساء: 135]، وقال - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8].
ضمان المجتمع المسلم:
إن المجتمع الإسلامي مسؤول بالتضامن عن تنفيذ الشريعة، وتطبيق أحكامها في كل الأمور! ومنها ما يتعلق بغير المسلمين، فإذا قصَّر بعض الناس، أو انحرف، أو جار وتعدى، وجد في المجتمع مَن يرده إلى الحق، ويأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، ويقف بجانب المظلوم المعتدَى عليه، ولو كان مخالفًا في الدين.
قد يوجد هذا كله دون أن يشكو الذمي إلى أحد، وقد يشكو ما وقع عليه من ظلم، فيجد مَن يسمع لشكواه، وينصفه من ظالمه، مهما يكن مركزه ومكانه في دنيا الناس، فله أن يشكو إلى الوالي أو الحاكم المحلي، فيجد عنده النصفة والحماية، فإن لم ينصفْه فله أن يلجأ إلى مَن هو فوقه؛ إلى خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين، فيجد عنده الضمانة والأمان، حتى لو كانت بينه وبين الخليفة نفسه، فإنه يجد الضمان لدى القضاء المستقل العادل، الذي له حق محاكمة أي مدعى عليه، ولو كان أكبر رأس في الدولة "الخليفة"!
ضمان آخر عند الفقهاء الذين هم حماة الشريعة، وموجهو الرأي العام، وضمان أعم وأشمل يتمثل في "الضمير الإسلامي" العام، الذي صنعته عقيدة الإسلام، وتربية الإسلام، وتقاليد الإسلام، والتاريخ الإسلامي مليء بالوقائع التي تدل على التزام المجتمع الإسلامي بحماية أهل الذمة من كل ظلم يمس حقوقهم المقررة، أو حرماتهم المصونة، أو حرياتهم المكفولة.
فإذا كان الظلم من أحد أفراد المسلمين إلى ذمي، فإن والي الإقليم سرعان ما ينصفه ويرفع الظلم عنه، بمجرد شكواه، أو علمه بقضيته من أي طريق.
وقد شكا أحد رهبان النصارى في مصر إلى الوالي "أحمد بن طولون" أحد قواده؛ لأنه ظلمه وأخذ منه مبلغًا من المال بغير حق، فما كان من "ابن طولون" إلا أن أحضر هذا القائد وأنَّبه وعزَّره، وأخذ منه المال ورده إلى النصراني، وقال له: لو ادعيت عليه أضعاف هذا المبلغ لألزمته به، وفتح بابه لكل متظلم من أهل الذمة، ولو كان المشكو من كبار القواد وموظفي الدولة.
وإن كان الظلم واقعًا من الوالي نفسه أو من ذويه وحاشيته، فإن إمام المسلمين وخليفتهم هو الذي يتولى ردعه ورد الحق لأهله، وأشهر الأمثلة على ذلك قصة القبطي مع "عمرو بن العاص" والي مصر، وإذا لم يصل أمر الذمي إلى الخليفة، أو كان الخليفة نفسه على طريقة واليه، فإن الرأي العام الإسلامي - الذي يتمثل في فقهاء المسلمين، وفي كافة المتدينين - يقف بجوار المظلوم من أهل الذمة ويسانده.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك، موقف الإمام الأوزاعي من الوالي العباسي في زمنه، عندما أجلى قومًا من أهل الذمة من جبل لبنان، لخروج فريق منهم على عامل الخراج، وكان الوالي هذا أحد أقارب الخليفة وعصبته، وهو "صالح بن علي بن عبدالله بن العباس"، فكتب إليه الأوزاعي رسالةً طويلة، كان مما قال فيها: "فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة، حتى يخرجوا من ديارهم وأموالهم، وحكم الله - تعالى -: ﴿ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [النجم: 38]، وهو أحق ما وقف عنده واقتُدِي به، وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه قال: ((مَن ظلم ذميًّا، أو كلفه فوق طاقته؛ فأنا حجيجه))[38].
إلى أن يقول في رسالته: فإنهم ليسوا بعبيد، فتكون في حل من تحويلهم من بلد إلى بلد، ولكنهم أحرار أهل ذمة"[39].
• ولم يعرف تاريخ المسلمين ظلمًا وقع على أهل الذمة واستمر طويلاً، فقد كان الرأي العام - والفقهاء معه دائمًا - ضد الظَّلَمة والمنحرفين، وسرعان ما يعود الحق إلى نصابه.
• ولقد أخذ الوليد بن عبدالملك "كنيسة يوحنا" من النصارى، وأدخلها في المسجد، فلما استخلف "عمر بن عبدالعزيز" شكا إليه النصارى ما فعل "الوليد" بهم في كنيستهم، فكتب إلى عامله بردِّ ما زاده في المسجد عليهم، لولا أنهم تراضوا مع الوالي على أساس أن يعوَّضوا بما يرضيهم[40].
وأجلى "الوليد بن يزيد" مَن كان بقبرص من الذميين، وأرسلهم إلى الشام مخافة حملة الروم، ورغم أنه لم يفعل ذلك إلا حماية للدولة، واحتياطًا لها في نظره، فقد غضب عليه الفقهاء وعامة المسلمين، واستعظموا ذلك منه، فلما جاء "يزيد بن الوليد" وردهم إلى قبرص استحسنه المسلمون وعدوه من العدل، وذكروه في مناقبه، كما يروي ذلك المؤرخ البلاذري"[41].
ومن مفاخر النظام الإسلامي ما منحه من سلطة واستقلال للقضاء، ففي رحاب القضاء الإسلامي الحق، يجد المظلوم والمغبون - أيًّا كان دينه وجنسه - الضمان والأمان، لينتصف من ظالمه، ويأخذ حقه من غاصبه، ولو كان هو أمير المؤمنين بهيبته وسلطانه.
• وفي تاريخ القضاء الإسلامي أمثلة ووقائع كثيرة، وقف السلطان أو الخلفية أمام القاضي مدعيًا أو مدعى عليه، وفي كثير منها كان الحكم على الخليفة أو السلطان لصالح فرد من أفراد الشعب لا حول له ولا طول، على رأس ذلك ما ذكرناه من قصة درع أمير المؤمنين "علي بن أبي طالب" - رضي الله عنه - مع الذمي الذي أخذها أو سرقها... إلخ[42]، وهي واقعة تغني عن كل تعليق[43]!
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/1001/53777/#ixzz2vD1vILDc
المجتمع الإسلامي مجتمع يقوم على عقيدة خاصة، منها تنبثق نظمه وأحكامه، وآدابه وأخلاقه، هذه العقيدة هي الإسلام، وهذا هو معنى تسميته "المجتمع الإسلامي"؛ فهو مجتمع اتَّخذ الإسلام منهاجًا لحياته، ودستورًا لحكمه، ومصدرًا لتشريعه وتوجيهه في كل شؤون الحياة، وعلاقاتها فردية واجتماعية، مادية ومعنوية، محلية ودولية.
ولكن ليس معنى هذا أن المجتمع المسلم يحكم بالفَناء على جميع العناصر التي تعيش في داخله، وهي تدين بدين آخر غير الإسلام!
كلا، إنه يقيم العلاقة بين أبنائه المسلمين وبين مواطنيهم من غير المسلمين على أسس وطيدة من التسامح والعدالة، والبر والرحمة، وهي أسس لم تعرفها البشرية قبل الإسلام، وقد عاشت قرونًا بعد الإسلام وهي تقاسي الويل من فقدانها، ولا تزال إلى اليوم تتطلع إلى تحقيقها في المجتمعات الحديثة، فلا تكاد تصل إليها في مجتمع ما، وفي وقت ما، إلا غلب عليها الهوى والعصبية، وضيق الأفق والأنانية، وجرَّتها إلى صراع دامٍ مع المخالفين في الدين، أو المذهب، أو الجنس، أو اللون.
دستور العلاقة مع غير السلمين:
وأساس هده العلاقة مع غير المسلمين قوله - تعالى -: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الممتحنة: 8، 9]؛ فالبر والقسط مطلوبان من المسلم للناس جميعًا، ولو كانوا كفارًا بدينه، ما لم يقفوا في وجهه ويحاربوا دعاته، ويضطهدوا أهله.
ولأهل الكتاب من بين غير المسلمين منزلة خاصة في المعاملة والتشريع، والمراد بأهل الكتاب مَن قام دينهم في الأصل على كتاب سماوي، وإن حرِّف وبدِّل بعدُ، كاليهود والنصارى الذين قام دينهم على التوراة والإنجيل؛ فالقرآن ينهى عن مجادلتهم في دينهم إلا بالحسنى، حتى لا يوغر المراءُ الصدور، ويوقد الجدل واللدد نار العصبية والبغضاء في القلوب، قال - تعالى -: ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 46]، ويبيح الإسلام مؤاكلة أهل الكتاب، والأكل من ذبائحهم، كما أباح مصاهرتهم والتزوج من نسائهم المحصنات العفيفات، مع ما قرَّره القرآن من قيام الحياة الزوجية على المودة والرحمة، وهذا في الواقع تسامح كبير من الإسلام؛ حيث أباح للمسلمِ أن تكون ربة بيته وشريكة حياته وأم أولاده غير مسلمة، وأن يكون أخوال أولاده وخالاتهم من غير المسلمين؛ قال - تعالى -: ﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 5]، وهذا الحكم في أهل الكتاب، وإن كانوا في غير دار الإسلام، أما المواطنون المقيمون في دار الإسلام فلهم منزلة ومعاملة، وهؤلاء هم "أهل الذمة"، فما حقيقتهم؟[1].
أهل الذمة:
جرى العرف الإسلامي على تسمية المواطنين من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي باسم: "أهل الذمة" أو "الذميين".
و"الذمة" كلمة معناها: العهد والضمان والأمان، وإنما سموا بذلك؛ لأن لهم عهد الله وعهد رسوله، وعهد جماعة المسلمين أن يعيشوا في حماية الإسلام، وفي كنف المجتمع الإسلامي آمنين مطمئنين، فهم في أمان المسلمين وضمانهم، بناءً على "عقد الذمة"، فهذه الذمة تعطي أهلها - من غير المسلمين - ما يشبه في عصرنا "الجنسية" السياسية التي تعطيها الدولة لرعاياها، فيكتسبون بذلك حقوق المواطنين، ويلتزمون بواجباتهم؛ فالذمي على هذا الأساس من "أهل دار الإسلام" كما يعبر الفقهاء، أو من حاملي الجنسية الإسلامية كما يعبر المعاصرون.
وعقد الذمة عقد مؤبد، يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم، وتمتعهم بحماية الجماعة الإسلامية ورعايتها، بشرط بذلهم "الجِزْية"، والتزامهم أحكام القانون الإسلامي في غير الشؤون الدينية.
وبهذا يصيرون من أهل "دار الإسلام"، فهذا العقد ينشئ حقوقًا متبادلة لكل من الطرفين: المسلمين وأهل ذمتهم، بإزاء ما عليه من واجبات.
فما هي الحقوق التي كفلها الشرع لأهل الذمة، وما هي واجباتهم؟[2]:
حقوق أهل الذمة:
القاعدة الأولى في معاملة أهل الذمة في "دار الإسلام": أن لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين، إلا في أمور محدَّدة مستثناة، كما أن عليهم ما على المسلمين من الواجبات إلا ما استُثنِي.
حق الحماية:
فأول هذه الحقوق هو حق تمتعهم بحماية الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، وهذه الحماية تشمل حمايتهم من كل عدوان خارجي، ومن كل ظلم داخلي، حتى ينعموا بالأمان والاستقرار.
(أ) الحماية من الاعتداء الخارجي:
أما الحماية من الاعتداء الخارجي، فيجب لهم ما يجب للمسلمين، وعلى الإمام - أو ولي الأمر في المسلمين بما له من سلطة شرعية، وما لديه من قوة عسكرية - أن يوفر لهم هذه الحماية.
قال في "مطالب أولي النهى" من كتب الحنابلة:
"يجب على الإمام حفظ أهل الذمة، ومنع ما يؤذيهم، وفك أسرهم، ودفع مَن قصدهم بأذى إن لم يكونوا بدار حرب، بل كانوا بدارنا، ولو كانوا منفردين ببلد، وعلل ذلك بأنهم "جرت عليهم أحكام الإسلام، وتأبد عقدهم؛ فلزمه ذلك كما يلزمه للمسلمين"[3].
وينقل الإمام القرافي المالكي في كتابه "الفروق" قول الإمام الظاهري "ابن حزم" في كتابه "مراتب الإجماع" أن مَن كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، صونًا لمن هو في ذمة الله - تعالى - وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة، وحكى في ذلك إجماع الأمة، وعلق على ذلك القرافي بقوله: "فعقد يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال صونًا لمقتضاه عن الضياع إنه لعظيم"[4].
ومن المواقف التطبيقية لهذا المبدأ الإسلامي، موقف شيخ الإسلام "ابن تيمية" حينما تغلب التتار على الشام، وذهب الشيخ ليكلِّم "قطلوشاه" في إطلاق الأسرى، فسمح القائد التتري للشيخ بإطلاق أسرى المسلمين، وأبَى أن يسمح له بإطلاق أهل الذمة، فما كان من شيخ الإسلام إلا أن قال: لا نرضى إلا بافتكاك جميع الأسارى من اليهود والنصارى، فهم أهل ذمتنا، ولا ندع أسيرًا، لا من أهل الذمة ولا من الملة، فلما رأى إصراره وتشدده أطلقهم له[5].
(ب) الحماية من الظلم الداخلي:
وأما الحماية من الظلم الداخلي، فهو أمر يوجبه الإسلام ويشدد في وجوبه، ويحذر المسلمين أن يمدوا أيديَهم أو ألسنتهم إلى أهل الذمة بأذى أو عدوان، فالله - تعالى - لا يحب الظالمين ولا يهديهم، بل يعاجلهم بعذابه في الدنيا، أو يؤخر لهم العقاب مضاعفًا في الآخرة،وجاءت أحاديث خاصة تحذر من ظلم غير المسلمين من أهل العهد والذمة، ومنها:
قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن ظلم معاهَدًا، أو انتقصه حقًّا، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أحذ منه شيئًا بغير طِيب نفسٍ منه؛ فأنا حجيجه يوم القيامة))[6].
وفي عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل نجران أنه: ((لا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر))[7].
ولهذا كله اشتدت عناية المسلمين منذ عهد الخلفاء الراشدين بدفع الظلم عن أهل الذمة، وكف الأذى عنهم، والتحقيق في كل شكوى تأتي من قِبلهم.
كان عمر - رضي الله عنه - يسأل الوافدين عليه من الأقاليم عن حال أهل الذمة، خشية أن يكون أحد من المسلمين قد أفضى إليهم بأذى، فيقولون له: "ما نعلم إلا وفاء"[8]؛ أي: بمقتضى العهد والعقد الذي بينهم وبين المسلمين، وهذا يقتضي أن كلاًّ من الطرفين وفَّى بما عليه، كما قال عمر - رضي الله عنه - في وصيته للخليفة بعده: "وأوصيه بأهل ذمة المسلمين خيرًا، أن يوفى لهم بعهدهم، ويحاط من ورائهم".
وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول: إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا[9].
وفقهاء المسلمين من كافة المذاهب الاجتهادية صرَّحوا وأكدوا بأن على المسلمين دفع الظلم عن أهل الذمة، والمحافظة عليهم؛ لأن المسلمين حين أعطوهم الذمة قد التزموا دفع الظلم عنهم، وهم صاروا به من أهل دار الإسلام، بل صرَّح بعضهم بأن ظلم الذمي أشدُّ من ظلم المسلم إثمًا[10].
(ج) حماية الدماء والأبدان:
وحق الحماية المقرَّر لأهل الذمة يتضمن حماية دمائهم وأنفسهم وأبدانهم، كما يتضمن حماية أموالهم وأعراضهم، فدماؤهم وأنفسهم معصومة باتفاق المسلمين، وقتلهم حرام بالإجماع، يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا))[11].
ولهذا أجمع فقهاء الإسلام على أن قتل الذمي كبيرة من كبائر المحرمات؛ لهذا الوعيد في الحديث، ولكنهم اختلفوا: هل يقتل المسلمُ بالذمي إذا قتله؟ والصحيح أنه يقتل به"[12].
وكما حمى الإسلام أنفسهم من القتل، حمى أبدانهم من الضرب والتعذيب؛ فلا يجوز إلحاق الأذى بأجسامهم ولو تأخروا أو امتنعوا عن أداء الواجبات المالية المقررة عليهم؛ كالجزية والخراج، هذا مع أن الإسلام تشدد كل التشدد مع المسلمين إذا منعوا الزكاة، ولم يُجِز الفقهاء في أمر الذميين المانعين أكثر من أن يحبسوا تأديبًا لهم، بدون أن يصحب الحبس أي تعذيب أو أشغال شاقة.
وفي ذلك كتب أبو يوسف[13]: أن "هشام بن حكيم بن حزام" أحد الصحابة - رضي الله عنه - رأى رجلاً - وهو على حمص - يشمِّس ناسًا من النبط في أداء الجزية، فقال: ما هذا؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله - عز وجل - يعذِّب الذين يعذبون الناس في الدنيا))[14].
وكتب "علي" إلى بعض ولاته على الخراج: إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوة، شتاءً ولا صيفًا، ولا رزقًا يأكلونه، ولا دابة يعملون عليها، ولا تضربن أحدًا منهم سوطًا واحدًا في درهم، ولا تُقِمْه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عرضًا "متاعًا" في شيء من الخراج، فإنما أُمِرنا أن نأخذ منهم العفو، فإن أنت خالفت ما أمرتُك به، يأخذك الله به دوني، وإن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتك"، قال الوالي: إذًا أرجع إليك كما خرجت من عندك، قال: وإن رجعت كما خرجت[15]!
د) حماية الأموال:
ومثل حماية الأنفس والأبدان حماية الأموال، وهذا مما اتفق عليه المسلمون، في جميع المذاهب، وفي جميع الأقطار، ومختلف العصور.
روى أبو يوسف في "الخراج" ما جاء في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل نجران: ((ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أموالهم وملتهم وبِيَعِهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير...))[16].
وفي عهد عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح "أن امنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم وأكل أموالهم إلا بحلها".
وعلى هذا استقرَّ عمل المسلمين طوال العصور، فمَن سرق مال ذمي قطعت يده، ومن غصبه عزِّر، وأعيد المال إلى صاحبه، ومَن استدان من ذمي فعليه أن يقضي دينه، فإن مطله وهو غني حبسه الحاكم حتى يؤدي ما عليه.
وبلغ من رعاية الإسلام لحرمة أموالهم وممتلكاتهم، أنه يحترم ما يعدونه - حسب دينهم - مالاً، وإن لم يكن مالاً في نظر المسلمين، فالخمر والخنزير لا يعتبران عند المسلمين مالاً متقومًا، ومَن أتلف لمسلم خمرًا أو خنزيرًا لا غرامة عليه ولا تأديب، بل هو مثابٌ مأجور على ذلك، ولا يجوز للمسلم أن يمتلك هذين الشيئين، لا لنفسه ولا ليبيعها لغيره.
أما الخمر والخنزير إذا ملكهما غير المسلم، فهما مالانِ عنده، بل من أنفس الأموال، كما قال فقهاء الحنفية، فمَن أتلفهما على الذمي غرم قيمتهما؛ على مذهب الحنفية"[17].
(هـ) حماية الأعراض:
ويحمي الإسلام عِرض الذمي وكرامته، كما يحمي عِرض المسلم وكرامته، فلا يجوز لأحد أن يسبه، أو يتهمه بالباطل، أو يشنع عليه بالكذب، أو يغتابه ويذكره بما يكره في نفسه، أو نسبه، أو خَلقه، أو خُلُقه، أو غير ذلك مما يتعلق به!
يقول الفقيه الأصولي المالكي "شهاب الدين القرافي" في كتابه "الفروق":
"إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقًا علينا؛ لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا "حمايتنا" وذمتا، وذمة الله - تعالى - وذمة رسول الله - عليه الصلاة والسلام - ودين الإسلام، فمَن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غِيبة، فقد ضيع ذمة الله وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وذمة دين الإسلام[18].
وفي الدر المختار من كتب الحنفية: "يجب كف الأذى عن الذمي، وتحرم غِيبته كالمسلم"، ويعلق العلامة "ابن عابدين" على ذلك بقوله: "لأنه بعقد الذمة وجب له ما لنا، فإذا حرمت غِيبة المسلم حرمت غيبته، بل قالوا: إن ظلم الذمي أشد"[19].
(و) التأمين عند العجز والشيخوخة والفقر:
وأكثر من ذلك أن الإسلام ضمن لغير المسلمين في ظل دولته كفالة المعيشة الملائمة لهم ولمن يعولونه؛ لأنهم رعية للدولة المسلمة، وهي مسؤولة عن كل رعاياها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كلكم راعٍ، وكل راعٍ مسؤول عن رعيته))[20].
وهذا ما مضت به سنة الراشدين ومَن بعدهم، ففي عقد الذمة الذي كتبه خالد بن الوليد لأهل الحيرة بالعراق - وكانوا من النصارى -: "وجعلت لهم أيما شيخ ضَعُف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيًّا فافتقر، وصار أهل دِينه يتصدَّقون عليه، طرحت جِزيته، وعِيلَ من بيت مال المسلمين هو وعياله"[21].
وكان هذا في عهد أبي يكر الصديق - رضي الله عنه - وبحضرة عدد كبير من الصحابة، وقد كتب خالد به إلى الصِّديق، ولم ينكر عليه أحد، ومثل هذا يعد إجماعًا، وقد مر بنا فعل عمر مع الشيخ اليهودي، وكذلك ما أمر به من الصدقات لمجذوميالنصارى.
وبهذا تقرَّر الضمان الاجتماعي في الإسلام، باعتباره "مبدأً عامًّا" يشمل أبناء المجتمع جميعًا، مسلمين وغير مسلمين، ولا يجوز أن يبقى - في المجتمع المسلم - إنسان محرومًا من الطعام، أو الكسوة، أو المأوى، أو العلاج، فإن دفع الضرر عنه واجب ديني، مسلمًا كان أو ذميًّا.
وذكر الإمام النووي في "المنهاج" أن من فروض الكفاية دفع ضرر المسلمين؛ ككسوة عارٍ، أو إطعام جائع، إذا لم يندفع بزكاة بيت المال[22].
ووضح العلامة شمس الدين الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" أن أهل الذمة كالمسلمين في ذلك، فدفع الضرر عنهم واجب، ثم بحث الشيخ "الرملي" - رحمه الله - في تحديد معنى دفع الضرر، فقال: وهل المراد بدفع ضرر مَن ذُكِر، ما يسد الرمق أم الكفاية؟ قولان، أصحهما: ثانيهما.
فيجب في الكسوة ما يستر كل البدن على حسب ما يليق بالحال من شتاء وصيف، ويلحق بالطعام والكسوة ما في معناها؛ كأجرة طبيب، وثمن دواء، وخادم منقطع، كما هو واضح، قال: ومما يندفع به ضرر المسلمين والذميين فك أسرهم[23]؛ اهـ[24].
حرية التدين:
ويحمي الإسلام - فيما يحميه من حقوق أهل الذمة - حق الحرية، وأول هذه الحريات: حرية الاعتقاد والتعبد، فلكل ذي دين دينه ومذهبه، لا يجبر على تركه إلى غيره، ولا يضغط عليه أي ضغط ليتحول منه إلى الإسلام، وأساس هذا الحق قوله - تعالى -: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة: 256]، وقوله - سبحانه -: ﴿ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 99].
قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى: "أي: لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه[25].
وسبب نزول الآية - كما ذكر المفسرون - يبيِّن لنا جانبًا من إعجاز هذا الدين، فقد رووا عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاة - قليلة النسل - فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده، "كان يفعل ذلك نساء الأنصار في الجاهلية"، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقال آباؤهم: لا ندَعُ أبناءنا"؛ يعنون: لا ندعهم يعتنقون اليهودية، فأنزل الله - عز وجل - هذه الآية: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256][26].
فرغم أن محاولات الإكراه كانت من آباء يريدون حماية أبنائهم من التبعية لأعدائهم المحارِبين الذين يخالفونهم في دينهم وقوميَّتهم، ورغم الظروف الخاصة التي دخل بها الأبناء دين اليهودية وهم صغار، رغم ما كان يسود العالم كله حينذاك من موجبات التعصب والاضطهاد للمخالفين في المذهب، فضلاً عن الدين، كما كان في مذهب الدولة الرومانية التي خيرت رعاياها حينًا بين التنصر والقتل، فلما تبنَّت المذهب "الملكاني" أقامت المذابح لكل مَن لا يدين به من المسيحين من اليعاقبة وغيرهم[27]، ورغم كل هذا رفض القرآن الإكراه، بل مَن هداه الله وشرح صدره ونوَّر بصيرته دخل فيه على بينة، ومَن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره؛ فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرَهًا مقسورًا"[28].
فالإيمان عند المسلمين ليس مجرد كلمة تلفظ باللسان، أو طقوسًا تؤدَّى بالأبدان، بل أساسه إقرار القلب وإذعانه وتسليمه؛ ولهذا لم يعرف التاريخ شعبًا مسلمًا حاول إجبار أهل الذمة على الإسلام، كما أقرَّ بذلك المؤرِّخون الغربيون أنفسهم.
وكذلك صان الإسلام لغير المسلمين معابدَهم، ورعى حرمة شعائرهم، بل جعل القرآن من أسباب الإذن في القتال حماية حرية العبادة، وذلك في قوله - تعالى -: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 39، 40].
• وقد رأينا كيف اشتمل عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل نجران على أن لهم جوار الله وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على أموالهم وملتهم وبِيَعِهم[29].
"وفي عهد عمر بن الخطاب إلى أهل إيلياء "القدس" نصَّ على حريتهم الدينية، وحرية معابدهم وشعائرهم: "هذا ما أعطى عبدالله "عمر بن الخطاب" أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبانهم، وسائر ملتهم، لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا حيزها، ولا من صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود"؛ كما رواه الطبري[30].
وكل ما يطلبه الإسلام من غير المسلمين أن يراعوا مشاعر المسلمين، وحرمة دينهم، فلا يُظهِروا شعائرهم وصلبانهم في الأمصار الإسلامية، ولا يُحدِثوا كنيسة في مدينة إسلامية لم يكن فيها كنيسة من قبل، وذلك لما في الإظهار والإحداث من تحدي الشعور الإسلامي؛ مما قد يؤدي إلى فتنة واضطراب، على أن من فقهاء المسلمين من أجاز لأهل الذمة إنشاء الكنائس والبِيَع وغيرها من المعابد في الأمصار الإسلامية، وفي البلاد التي فتحها المسلمون عَنوة، أي إن أهلها حاربوا المسلمين ولم يسلموا لهم إلا بحد السيف، إذا أذن لهم إمام المسلمين بذلك بناءً على مصلحة رآها، ما دام الإسلام يقرهم على عقائدهم، وقد ذهب إلى ذلك الزيدية والإمام ابن القاسم من أصحاب مالك[31].
ويبدو أن العمل جرى على هذا في تاريخ المسلمين، وذلك منذ عهد مبكر؛ فأغلب الكنائس محدثة في الإسلام بلا خلاف، أما في القرى والمواضع التي ليست من أمصار المسلمين فلا يمنعون من إظهار شعائرهم الدينية، وتجديد كنائسهم القديمة، وبناء ما تدعو حاجتهم إلى بنائه، نظرًا لتكاثر عددهم.
وهذا التسامح مع المخالفين في الدين من قوم قامت حياتهم كلها على الدين، وتم لهم به النصر والغلبة؛ أمر لم يعهد في تاريخ الديانات، وهذا ما شهد به الغربيون أنفسهم[32].
• يقول العلامة الفرنسي "جوستاف لوبون": "رأينا من آي القرآن التي ذكرناها آنفًا أن مسامحة "محمد" لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية، وأنه لم يقلْ بمثلها مؤسِّسو الأديان التي ظهرتْ قبله كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص، وسنرى كيف سار خلفاؤه على سنته، وقد اعترف بذلك التسامح بعض علماء أوروبا المرتابون أو المؤمنون القليلون الذين أمعنوا النظر في تاريخ العرب.
والعبارات الآتية التي أقتطفها من كتب الكثيرين منهم تثبت أن رأينا في هذه المسألة ليس خاصًّا بنا، وقد نُقل عن "روبرتسن" في كتابه (تاريخ شارلكن) أن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وأنهم مع امتشاقهم الحسام نشرًا لدينهم؛ تركوا مَن لم يرغبوا فيه أحرارًا في التمسك بتعاليمهم الدينية[33].
حرية العمل والكسب:
لغير المسلمين حرية العمل والكسب، بالتعاقد مع غيرهم، أو بالعمل لحساب أنفسهم، ومزاولة ما يختارون من المهن الحرة، ومباشرة ما يريدون من ألوان النشاط الاقتصادي، شأنهم في ذلك شأن المسلمين، فقد قرر الفقهاء أن أهل الذمة في البيوع، والتجارات، وسائر العقود، والمعاملات المالية كالمسلمين، ولم يستثنوا من ذلك إلا عقد الربا، فإنه محرَّم عليهم كالمسلمين، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى مجوس هجر: ((إما أن تذروا الربا أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله))، كما يمنع أهل الذمة من بيع الخمور والخنازير في أمصار المسلمين، وفتح الحانات فيها لشرب الخمر، ومن تداولها أو إدخالها إلى أمصار المسلمين على وجه الشهرة والظهور، ولو كان ذلك لاستمتاعهم الخاص؛ سدًّا لذريعة الفساد وإغلاقًا لباب الفتنة.
وفيما عدا هذه الأمور المحدودة، يتمتع الذميون بتمام حريتهم، في مباشرة التجارات والصناعات والحِرَف المختلفة، وهذا ما جرى عليه الأمر، ونطق به تاريخ المسلمين في شتى الأزمان، وكادت بعض المهن تكون مقصورة عليهم؛ كالصيرفة والصيدلة وغيرها، واستمرَّ ذلك إلى وقت قريب في كثير من بلاد الإسلام، وقد جمعوا من وراء ذلك ثروات طائلة معفاة من الزكاة ومن كل ضريبة إلا الجزية، وهي ضريبة على الأشخاص القادرين على حمل السلاح، كما سيأتي، وهي مقدار جد زهيد[34].
قال الأستاذ آدم ميتز[35]: "ولم يكن في التشريع الإسلامي ما يغلق دون أهل الذمة أي باب من أبواب الأعمال، وكانت قدمهم راسخة في الصنائع التي تدرُّ الأرباح الوافرة، فكانوا صيارفة وتجارًا وأصحاب ضياع وأطباء، بل إن أهل الذمة نظموا أنفسهم، بحيث كان معظم الصيارفة والجهابذة في الشام مثلاً يهودًا، على حين كان أكثر الأطباء والكَتَبة نصارى، وكان رئيس النصارى ببغداد هو طبيب الخليفة، وكان رؤساء اليهود وجهابذتهم عنده[36].
تولي وظائف الدولة:
ولأهل الذمة الحق في تولي وظائف الدولة كالمسلمين، إلا ما غلب عليه الصبغة الدينية؛ كالإمامة، ورئاسة الدولة، والقيادة في الجيش، والقضاء بين المسلمين، والولاية على الصدقات، ونحو ذلك.
فالإمامة أو الخلافة رياسةٌ عامة في الدين والدنيا، وخلافة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يجوز أن يخلف النبيَّ في ذلك إلا مسلمٌ، ولا يعقل أن ينفذ أحكام الإسلام ويرعاها إلا مسلم، وقيادة الجيش ليست عملاً مدنيًّا صرفًا، بل هي عمل من أعمال العبادة في الإسلام؛ إذ الجهاد في قمة العبادات الإسلامية، والقضاء إنما هو حكم بالشريعة الإسلامية، ولا يطلب من غير المسلم أن يحكم بما لا يؤمن به.
ومثل ذلك الولاية على الصدقات ونحوها من الوظائف الدينية، وما عدا ذلك من وظائف الدولة يجوز إسناده إلى أهل الذمة، إذا تحققت فيهم الشروط التي لا بد منها، من الكفاية والأمانة والإخلاص للدولة، بخلاف الحاقدين الذين تدل الدلائل على بغضٍ مستحكمٍ منهم للمسلمين، كالذين قال الله فيهم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118].
وقد بلغ التسامح بالمسلمين أن صرَّح فقهاء كبار - مثل الماوردي في "الأحكام السلطانية" - بجواز تقليد الذمي "وزارة التنفيذ"، ووزير التنفيذ هو الذي يبلغ أوامر الإمام ويقوم بتنفيذها، ويمضي ما يصدر عنه من أحكام.
وهذا بخلاف "وزارة التفويض" التي يَكِل فيها الإمام إلى الوزير تدبير الأمور السياسية والإدارية والاقتصادية بما يراه، وقد تولَّى الوزارة في زمن العباسيين بعض النصارى أكثر من مرة، وكان لمعاوية بن أبي سفيان كاتب نصراني.
وقد بلغ تسامح المسلمين في هذا الأمر أحيانًا إلى حد المبالغة والجور على حقوق المسلمين[37]!
ضمانات الوفاء بهذه الحقوق:
لقد قررت الشريعة الإسلامية لغير المسلمين كل تلك الحقوق، وكفلت لهم كل تلك الحريات، وزادت على ذلك بتأكيد الوصية بحسن معاملتهم ومعاشرتهم بالتي هي أحسن.
ولكن مَن الذي يضمن الوفاء بتنفيذ هذه الحقوق وتحقيق هذه الوصايا؟ وبخاصة أن المخالفة في الدين كثيرًا ما تقف حاجزًا دون ذلك، وهذا الكلام حق وصدق بالنظر إلى الدساتير الأرضية والقوانين الوضعية التي تنص على المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، ثم تظل حبرًا على ورق، لغلبة الأهواء والعصبيات التي لم تستطع القوانين أن تنتصر عليها؛ لأن الشعب لا يشعرُ بقدسيتِها، ولا يؤمن في قرارة نفسه بوجوب الخضوع لها والانقياد لحكمها.
ضمان العقيدة:
أما الشريعة الإسلامية، فهي شريعة الله وقانون السماء، الذي لا تبديل لكلماته، ولا جور في أحكامه، ولا يتم الإيمان إلا بطاعته، والرضا به، قال - تعالى -: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36].
ولهذا يحرص كل مسلم يتمسك بدينه على تنفيذ أحكام هذه الشريعة ووصاياها، ليرضي ربه وينال ثوابه، لا يمنعه من ذلك عواطف القرابة والمودة، ولا مشاعر العداوة والشنآن.
قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ [النساء: 135]، وقال - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8].
ضمان المجتمع المسلم:
إن المجتمع الإسلامي مسؤول بالتضامن عن تنفيذ الشريعة، وتطبيق أحكامها في كل الأمور! ومنها ما يتعلق بغير المسلمين، فإذا قصَّر بعض الناس، أو انحرف، أو جار وتعدى، وجد في المجتمع مَن يرده إلى الحق، ويأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، ويقف بجانب المظلوم المعتدَى عليه، ولو كان مخالفًا في الدين.
قد يوجد هذا كله دون أن يشكو الذمي إلى أحد، وقد يشكو ما وقع عليه من ظلم، فيجد مَن يسمع لشكواه، وينصفه من ظالمه، مهما يكن مركزه ومكانه في دنيا الناس، فله أن يشكو إلى الوالي أو الحاكم المحلي، فيجد عنده النصفة والحماية، فإن لم ينصفْه فله أن يلجأ إلى مَن هو فوقه؛ إلى خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين، فيجد عنده الضمانة والأمان، حتى لو كانت بينه وبين الخليفة نفسه، فإنه يجد الضمان لدى القضاء المستقل العادل، الذي له حق محاكمة أي مدعى عليه، ولو كان أكبر رأس في الدولة "الخليفة"!
ضمان آخر عند الفقهاء الذين هم حماة الشريعة، وموجهو الرأي العام، وضمان أعم وأشمل يتمثل في "الضمير الإسلامي" العام، الذي صنعته عقيدة الإسلام، وتربية الإسلام، وتقاليد الإسلام، والتاريخ الإسلامي مليء بالوقائع التي تدل على التزام المجتمع الإسلامي بحماية أهل الذمة من كل ظلم يمس حقوقهم المقررة، أو حرماتهم المصونة، أو حرياتهم المكفولة.
فإذا كان الظلم من أحد أفراد المسلمين إلى ذمي، فإن والي الإقليم سرعان ما ينصفه ويرفع الظلم عنه، بمجرد شكواه، أو علمه بقضيته من أي طريق.
وقد شكا أحد رهبان النصارى في مصر إلى الوالي "أحمد بن طولون" أحد قواده؛ لأنه ظلمه وأخذ منه مبلغًا من المال بغير حق، فما كان من "ابن طولون" إلا أن أحضر هذا القائد وأنَّبه وعزَّره، وأخذ منه المال ورده إلى النصراني، وقال له: لو ادعيت عليه أضعاف هذا المبلغ لألزمته به، وفتح بابه لكل متظلم من أهل الذمة، ولو كان المشكو من كبار القواد وموظفي الدولة.
وإن كان الظلم واقعًا من الوالي نفسه أو من ذويه وحاشيته، فإن إمام المسلمين وخليفتهم هو الذي يتولى ردعه ورد الحق لأهله، وأشهر الأمثلة على ذلك قصة القبطي مع "عمرو بن العاص" والي مصر، وإذا لم يصل أمر الذمي إلى الخليفة، أو كان الخليفة نفسه على طريقة واليه، فإن الرأي العام الإسلامي - الذي يتمثل في فقهاء المسلمين، وفي كافة المتدينين - يقف بجوار المظلوم من أهل الذمة ويسانده.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك، موقف الإمام الأوزاعي من الوالي العباسي في زمنه، عندما أجلى قومًا من أهل الذمة من جبل لبنان، لخروج فريق منهم على عامل الخراج، وكان الوالي هذا أحد أقارب الخليفة وعصبته، وهو "صالح بن علي بن عبدالله بن العباس"، فكتب إليه الأوزاعي رسالةً طويلة، كان مما قال فيها: "فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة، حتى يخرجوا من ديارهم وأموالهم، وحكم الله - تعالى -: ﴿ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [النجم: 38]، وهو أحق ما وقف عنده واقتُدِي به، وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه قال: ((مَن ظلم ذميًّا، أو كلفه فوق طاقته؛ فأنا حجيجه))[38].
إلى أن يقول في رسالته: فإنهم ليسوا بعبيد، فتكون في حل من تحويلهم من بلد إلى بلد، ولكنهم أحرار أهل ذمة"[39].
• ولم يعرف تاريخ المسلمين ظلمًا وقع على أهل الذمة واستمر طويلاً، فقد كان الرأي العام - والفقهاء معه دائمًا - ضد الظَّلَمة والمنحرفين، وسرعان ما يعود الحق إلى نصابه.
• ولقد أخذ الوليد بن عبدالملك "كنيسة يوحنا" من النصارى، وأدخلها في المسجد، فلما استخلف "عمر بن عبدالعزيز" شكا إليه النصارى ما فعل "الوليد" بهم في كنيستهم، فكتب إلى عامله بردِّ ما زاده في المسجد عليهم، لولا أنهم تراضوا مع الوالي على أساس أن يعوَّضوا بما يرضيهم[40].
وأجلى "الوليد بن يزيد" مَن كان بقبرص من الذميين، وأرسلهم إلى الشام مخافة حملة الروم، ورغم أنه لم يفعل ذلك إلا حماية للدولة، واحتياطًا لها في نظره، فقد غضب عليه الفقهاء وعامة المسلمين، واستعظموا ذلك منه، فلما جاء "يزيد بن الوليد" وردهم إلى قبرص استحسنه المسلمون وعدوه من العدل، وذكروه في مناقبه، كما يروي ذلك المؤرخ البلاذري"[41].
ومن مفاخر النظام الإسلامي ما منحه من سلطة واستقلال للقضاء، ففي رحاب القضاء الإسلامي الحق، يجد المظلوم والمغبون - أيًّا كان دينه وجنسه - الضمان والأمان، لينتصف من ظالمه، ويأخذ حقه من غاصبه، ولو كان هو أمير المؤمنين بهيبته وسلطانه.
• وفي تاريخ القضاء الإسلامي أمثلة ووقائع كثيرة، وقف السلطان أو الخلفية أمام القاضي مدعيًا أو مدعى عليه، وفي كثير منها كان الحكم على الخليفة أو السلطان لصالح فرد من أفراد الشعب لا حول له ولا طول، على رأس ذلك ما ذكرناه من قصة درع أمير المؤمنين "علي بن أبي طالب" - رضي الله عنه - مع الذمي الذي أخذها أو سرقها... إلخ[42]، وهي واقعة تغني عن كل تعليق[43]!
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/1001/53777/#ixzz2vD1vILDc
د هاني- عضو مبدع
- عدد المساهمات : 294
تاريخ التسجيل : 27/12/2010
مواضيع مماثلة
» الإسلام وحقوق الحيوان
» الاستاذ الدكتور / محمد بديع المرشد العام للاخوان المسلمين
» مؤتمر الاخوان المسلمين بخصوص الانتخابات لنقابة الاطباء البيطريين بكفر الشيخ - فيديو
» بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ
» الاستاذ الدكتور / محمد بديع المرشد العام للاخوان المسلمين
» مؤتمر الاخوان المسلمين بخصوص الانتخابات لنقابة الاطباء البيطريين بكفر الشيخ - فيديو
» بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد ديسمبر 06, 2020 11:43 pm من طرف Admin
» التزاوج الجنسي في الحيوانات المختلفة
الجمعة أغسطس 07, 2020 6:28 pm من طرف Admin
» مفهوم الإبداع ومعوقات التفكير الإبداعي
الخميس أبريل 09, 2020 1:35 pm من طرف Admin
» مدرسة الارشاد البيطري
الثلاثاء أبريل 07, 2020 2:57 am من طرف Admin
» شقق للبيع بحى النرجس الجديدة بالتجمع الخامس بمشروع 334 بالتقسيط
الجمعة سبتمبر 13, 2019 2:20 am من طرف mohamed.elbogdady
» اهمية الخميرة في غذاء الحيوان
الثلاثاء يوليو 09, 2019 6:21 pm من طرف Admin
» اهمية الخميرة في غذاء الحيوان
الثلاثاء يوليو 09, 2019 6:18 pm من طرف Admin
» زراعة البرسيم المصرى
الخميس يونيو 20, 2019 1:33 pm من طرف د رضا
» تابع مكتبة الصور
الثلاثاء مايو 21, 2019 11:06 pm من طرف د علاء عكاشة